تفسير سورة العلق-19
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة العلق: الكلام على البسملة
يقول الله عز وجل: (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ )). وبالبسملة كلام سبقت الإشارة إليه لكن لا مانع من إعادته، وهو هل البسملة آية من السورة التي تليها أم هي آية مستقلة؟ والصحيح أنها آية مستقلة، ولأنها ليست من السورة التي تليها، فلا هي من الفاتحة ولا من البقرة ولا من آل عمران، بل هي آية مستقلة، ولهذا لو أن الإنسان في الصلاة قرأ الفاتحة بدون البسملة فصلاته صحيحة لأن البسملة ليست منها، لكن سورة براءة لم تكتب فيها البسملة لأنها لم تنزل البسملة بينها وبين سورة الأنفال، لكن اشتبه على الصحابة حين جمعوا القرآن فجعلوا فاصلاً بين سورة الأنفال وسورة براءة ولم يكتبوا البسملة.
تفسير قوله تعالى:" اقرأ باسم ربك الذي خلق " بيان أول ما نزل على رسول الله من الوحي وكيفيته
يقول الله عز وجل: (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) (( اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم )) هذه الآيات أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن، هي أول ما نزل عليه من القرآن، نزلت عليه وهو يتعبد في غار حراء وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول ما بدء بالوحي أنه يرى الرؤيا في المنام، فتأتي مثل فلق الصبح يعني يحدث ما يصدق هذه الرؤيا، وأول ما كان يرى هذه الرؤيا في ربيع الأول فبقي ستة أشهر يرى مثل هذه الرؤيا ويراها تجيء مثل فلق الصبح، وفي رمضان نزل الوحي الذي يكون في اليقظة، والمدة بين ربيع الأول ورمضان ستة شهور، وزمن الوحي ثلاث وعشرون سنة، ولهذا جاء في الحديث ( أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة )، لما كان يرى هذه الرؤيا التي تجيء مثل فلق الصبح حُبب إليه الخلاء، يعني أن يخلو بنفسه ويبتعد عن هذا المجتمع الجاهلي، فرأى عليه الصلاة والسلام أن أحسن ما يخلو به هذا الغار الذي في جبل حراء وهو غار في قمة الجبل لا يكاد يصعد إليه الإنسان القوي إلا بمشقة، فكان يصعده عليه الصلاة والسلام ويتحنث، يتعبد لله عز وجل بما فتح الله عليه في هذا الغار الليالي ذوات العدد، يعني عدة ليال، ومعه زاد أخذه يتزود به من طعام وشراب، ثم ينزل ويتزود لمثلها من أهله، ويرجع ويتحنث لله عز وجل، إلى أن نزل عليه الوحي وهو في هذا الغار، أتاه جبريل وأمره أن يقرأ فقال: ( ما أنا بقارئ ) ومعنى ( ما أنا بقارئ ) يعني لست من ذوي القراءة، وليس مراده المعصية لأمر جبريل، لكنه لا يستطيع، ليس من ذوي القراءة، إذ أنه صلى الله عليه وسلّم كان أميًّا كما قال الله تعالى: (( فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي )). وقال تعالى: (( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم )). فكان لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من حكمة الله أنه لا يقرأ ولا يكتب، حتى تتبين حاجته وضرورته إلى هذه الرسالة، وحتى لا يبقى لشاك شك في صدقه، وقد أشار الله إلى هذه في قوله: (( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون )). قال له: ( ما أنا بقارئ ) فغطه مرتين أو ثلاثاً، ثم قال له (( اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ))، أربع آيات، خمس آيات نزلت فرجع بها النبي صلى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده من الخوف والفزع حتى أتى إلى خديجة، وحديث الوحي وابتداءه موجود في أول صحيح البخاري من أحب أن يرجع إليه فليرجع.
2 - تفسير قوله تعالى:" اقرأ باسم ربك الذي خلق " بيان أول ما نزل على رسول الله من الوحي وكيفيته أستمع حفظ
تفسير قوله تعالى:" اقرأ باسم ربك الذي خلق "
يقول الله عز وجل: (( اقرأ باسم ربك الذي خلق )) قوله: (( باسم ربك )) قيل معناه متلبساً بذلك، وقيل مستعيناً بذلك، يعني اقرأ مستعيناً باسم الله، لأن أسماء الله تعالى كلها خير، وكلها إعانة يستعين بها الإنسان، ولذلك يستعين بها الإنسان على وضوئه، ويستعين بها على أكله، ويستعين بها على جماعه فهي كلها عون، (( باسم ربك الذي خلق... )) الخ. وقال: (( باسم ربك )) دون أن يقول باسم الله لأن المقام مقام ربوبية وتصرف وتدبير للأمور وابتداء رسالة فلهذا قال: (( باسم ربك )) إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام قد رباه الله تعالى تربية خاصة وربه كذلك ربوبية خاصة. (( الذي خلق )) خلق أي شيء؟ خلق كل شيء كما قال تعالى: (( وخلق كل شيء فقدره تقديراً )). وقال تعالى: )) الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل (( . فما من شيء في السماء ولا في الأرض، من خفي وظاهر، وصغير وكبير إلا وهو مخلوق لمن؟ لله عز وجل ولهذا قال: (( خلق )) وحذف المفعول إشارة للعموم، لأن حذف المفعول يفيد العموم، إذ لو ذكر المفعول لتقيد الفعل به، مفهوم هذا الكلام؟ يعني لو قال خلق كذا تقيد الخلق بما ذكر فقط، لكن إذا قال (( خلق )) وأطلق صار عامًّا فهو خالق كل شيء جل وعلا.
تفسير قوله تعالى:" خلق الإنسان من علق "
ثم قال: (( خلق الإنسان من علق )) فنص وخص خلق الإنسان تكريماً للإنسان وتشريفاً للإنسان، لأن الله تعالى يقول: (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً )). فلهذا نص على خلق الإنسان (( خلق الإنسان )): أي ابتدأ خلقه (( من علق )) جمع، أو اسم جمع علقة، كشجر اسم جمع شجرة، فما هو العلق؟ العلق هي عبارة عن دودة حمراء من الدم صغيرة وهذا المنشأ الذي به الحياة، لأن الإنسان دم لو تفرغ من الدم لهلك.
الجمع بين هذه الآية " خلق الإنسان من علق " وبين قوله :" من صلصال كالفخار " وقوله: " من تراب " وقوله:" من ماء مهين "
وقد بيّن الله عز وجل أنه خلق الإنسان من علق، ولكنه يتطور، وبيّن في آيات أخرى أنه خلق الإنسان من تراب، وفي آيات أخرى خلقه من طين، وفي آيات أخرى من صلصال كالفخار، وفي آيات أخرى من ماء دافق، وفي آيات أخرى من ماء مهين، وفي هذه الآية من علق فهل في هذا تناقض؟ الجواب: لا، ولا يمكن أن يكون في كلام الله تعالى، أو ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلّم شيء من التناقض أبداً، فإن الله يقول: (( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )). لكنه سبحانه وتعالى يذكر أحياناً مبدأ الخلق من وجه، ومبدأ الخلق من وجه آخر، فخلقه من تراب، يعني أول ما خلق الإنسان من التراب ثم صب عليه الماء فكان طيناً ثم استمر مدة فكان حمئاً مسنوناً، ثم طالت مدته فكان صلصالاً، يعني إذا ضربته بيدك تسمع له صلصلة كالفخار، ثم خلقه عز وجل لحماً، وعظماً، وعصباً إلى آخره، هذا ابتداء الخلق المتعلق بآدم.
5 - الجمع بين هذه الآية " خلق الإنسان من علق " وبين قوله :" من صلصال كالفخار " وقوله: " من تراب " وقوله:" من ماء مهين " أستمع حفظ
الكلام على حديث ابن مسعود في مراحل خلق الجنين، وما يتعلق بالجنين كالسقط والعقيقة وغيرهما
والخلق الآخر من بنيه أول منشئهم من نطفة، وهي الماء المهين وهي الماء الدافق، هذه النطفة تبقى في الرحم أربعين يوماً، ثم تتحول شيئاً فشيئاً وبتمام الأربعين تنقلب بالتطور والتدريج حتى تكون دماً علقة، ثم تبدأ بالنمو والثخونة وتتطور شيئاً فشيئاً، فإذا تمت ثمانين يوماً انتقلت إلى مضغة ـ قطعة من لحم بقدر ما يمضغه الإنسان ـ وتبقى كذلك أربعين يوماً فهذه مائة وعشرون يوماً، وهي بالأشهر كم؟ أربعة أشهر، بعد أربعة أشهر يبعث الله إليه الملك الموكل بالأرحام، فينفخ فيه الروح، فتدخل الروح في الجسد بإذن الله عز وجل، والروح لا نستطيع أن نعرف كنهها وحقيقتها ومادتها، ما ندري من أي مادة، الجسد عرفنا أصله من التراب، ثم في أرحام النساء من النطفة، لكن الروح لا نعرف، لا نعرف من أي جوهر هي؟ ولا من أي مادة (( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )). فينفخ الملك الروح في هذا الجنين فيبدأ يتحرك، لأن نماءه الأول كنماء الأشجار بدون إحساس، بعد أن تنفخ فيه الروح يكون آدمياً يتحرك، ولهذا إذا سقط الحمل من البطن قبل أربعة أشهر دفن في أي مكان من الأرض، بدون تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة عليه، ولا يبعث، لأنه ليس آدميًّا، وبعد أربعة أشهر إذا سقط يجب أن يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في المقابر، لأنه صار إنساناً، ويسمى أيضاً، لأنه يوم القيامة سيدعى باسمه، ويعق عنه، لكن العقيقة عنه ليست في التأكيد كالعقيقة عمن بلغ سبعة أيام بعد خروجه، على كل حال هذا الجنين في بطن أمه يتطور حتى يكون بشراً، ثم يأذن الله عز وجل له بعد المدة التي أكثر ما تكون عادة تسعة أشهر فيخرج إلى الدنيا. وبهذه المناسبة أودّ أن أبيّن أن للإنسان أربع دور: الدار الأولى: في بطن أمه. و الثانية: في الدنيا. و الثالثة: في البرزخ. و الرابعة: في الجنة أو النار وهي المنتهى. (( خلق الإنسان من علق )): واش قلنا في العلق؟ اسم جمع علقة، وهي دودة من الدم معروفة وهذا أول المنشأ الذي تتكون منه مادة الحياة وهو الدم.
6 - الكلام على حديث ابن مسعود في مراحل خلق الجنين، وما يتعلق بالجنين كالسقط والعقيقة وغيرهما أستمع حفظ
تفسير قوله تعالى:" اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم "
(( اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم )): (( اقرأ )) تكرار للأولى لكن هل هي توكيد أو هي تأسيس؟ الصحيح أنها تأسيس وأن الأولى (( اقرأ باسم ربك الذي خلق )) قرنت بما يتعلق بالربوبية، و قرنت (( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم )) بما يتعلق بالشرع، فالأولى بما يتعلق بالقدر، والثانية بما يتعلق بالشرع، لأن التعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع عليه، إذ أن الشرع يكتب ويحفظ، القرآن يكتب ويحفظ، السنة تكتب وتحفظ، كلام العلماء يكتب ويحفظ، فلهذا أعادها الله مرة ثانية.
تفسير قوله تعالى:" كلا إنا الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى "
(( اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم )): (( اقرأ )) تكرار للأولى لكن هل هي توكيد أو هي تأسيس؟ الصحيح أنها تأسيس وأن الأولى (( اقرأ باسم ربك الذي خلق )) قرنت بما يتعلق بالربوبية، و قرنت (( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم )) بما يتعلق بالشرع، فالأولى بما يتعلق بالقدر، والثانية بما يتعلق بالشرع، لأن التعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع عليه، إذ أن الشرع يكتب ويحفظ، القرآن يكتب ويحفظ، السنة تكتب وتحفظ، كلام العلماء يكتب ويحفظ، فلهذا أعادها الله مرة ثانية.
تفسير قوله تعالى:" إن إلى ربك الرجعى "
ثم قال عز وجل مهدداً هذا الطاغية (( إن إلى ربك الرجعى )) أي المرجع يعني مهما طغيت وعلوت واستكبرت واستغنيت فإن مرجعك إلى الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى (( إلا من تولى وكفر. فيعذبه الله العذاب الأكبر. إن إلينا إيابهم .ثم إن علينا حسابهم )). وإذا كان المرجع إلى الله في كل الأمور فإنه لا يمكن لأحد أن يفر من قضاء الله أبداً، ولا من ثواب الله وعدله، وقوله: (( إن إلى ربك الرجعى )) ربما نقول إنه أعم من الوعيد والتهديد أي أنه يشمل الوعيد والتهديد، لكنه ربما يشمل ما هو أعم فيكون المعنى أن إلى الله المرجع في كل شيء في الأمور الشرعية التحاكم إلى أي شيء؟ إلى الكتاب والسنة (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول )). والأمور الكونية المرجع فيها إلى من؟ إلى الله (( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم )). فلا رجوع للعبد إلا إلى الله، كل الأمور ترجع إلى الله عز وجل، يفعل ما يشاء، حتى ما يحصل بين الناس من الحروب والفتن والشرور فإن الله هو الذي قدرها، لكنه قدرها لحكمة كما قال الله تعالى: (( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد )). إذن (( إن إلى ربك الرجعى )) يكون فيها تهديد لهذا الإنسان الذي طغى حين رأى نفسه مستغنياً عن ربه، وفيها أيضاً ما هو أشمل وأعم وهو أن المرجع إلى الله تعالى في كل الأمور.
تفسير قوله تعالى:" أرأيت الذي ينهى. عبدا إذا صلى "
ثم قال: (( أرأيت الذي ينهى. عبداً إذا صلى )): يعني أخبرني عن حال هذا الرجل وتعجب من حال هذا الرجل الذي ينهى عبداً إذا صلى، فعندنا الآن ناهي وعندنا منهي، فمن هو الناهي؟ الناهي هو طاغية قريش أبو جهل، وكان يسمى في قريش أبا الحكم، لأنهم يتحاكمون إليه، ويرجعون إليه فاغتر بنفسه - والعياذ بالله -، وشرق بالإسلام ومات على الكفر كما هو معروف، هذا الرجل سماه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا جهل ضد تسميتهم إياه أبا الحكم، وأما المنهي فهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو العبد (( عبداً إذا صلى )) أبو جهل قيل له: إن محمداً يصلي عند الكعبة أمام الناس، يفتن الناس ويصدهم عن أصنامهم وآلهتهم، فمر به ذات يوم وهو ساجد فنهى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: لقد نهيتك فلماذا تفعل؟ فانتهره النبي عليه الصلاة والسلام فرجع، ثم قيل لأبي جهل إنه أي محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم مازال يصلي فقال: والله لئن رأيته لأطأن عنقه بقدمي، ولأرغمن وجهه في التراب، ثم رآه ذات يوم ساجداً تحت الكعبة وأقبل عليه يريد أن يبر بيمينه وقسمه، لما أقبل عليه وجد بينه وبينه خندقاً من النار وأهوالاً عظيمة، فنكص على عقبيه وعجز أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا العبد الذي ينهى عبداً إذا صلى يتعجب من حاله كيف يفعل هذا؟ ولهذا جاء في آخر الآيات (( ألم يعلم بأن الله يرى )) وأنه سيجازيه.
تفسير قوله تعالى:" أرأيت إن كان على الهدى. أو أمر بالتقوى. أرأيت إن كذب وتولى "
ثم قال: (( أرأيت إن كان على الهدى. أو أمر بالتقوى. ألم يعلم بأن الله يرى )): (( أرأيت )) يعني أخبرني أيها المخاطب إن كان على الهدى، من يعني به؟ الناهي أبو جهل أو الساجد محمد صلى الله عليه وسلّم؟ يعني به الثاني، أي أرأيت إن كان هذا الساجد على الهدى فكيف تنهاه عنه؟ (( أو أمر بالتقوى )) قال بعض المفسرين (( أو )) هنا بمعنى الواو يعني وأمر بالتقوى، ولكن الصحيح أنها على بابها للتنويع، يعني أرأيت إن كان على الهدى فيما فعل من السجود والصلاة، أو أمر غيره بالتقوى، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمر بالتقوى بلا شك فهو صالح بنفسه مصلح لغيره.
تفسير قوله تعالى:" ألم يعلم بأن الله يرى "
(( ألم يعلم بأن الله يرى )) يعني يرى المنهي وهو الساجد محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الآمر بالتقوى ويرى هذا العبد الطاغية الذي ينهى عبداً إذا صلى (( ألم يعلم بأن الله يرى )) يرى سبحانه وتعالى علماً ورؤية، فهو سبحانه وتعالى يرى كل شيء مهما خفي ودق، ويعلم كل شيء مهما بعد، ومهما كثر أو قل، فيعلم الآمر والناهي ويعلم المصلي والساجد، ويعلم من طغى، ومن خضع لله عز وجل، وسيجازي كل إنسان بعمله، والمقصود من هذا تهديد هذا الذي ينهى عبداً إذا صلى، وبيان أن الله تعالى يعلم بحاله، وحال من ينهاه، وسيجازي كلاًّ منهما بما يستحق. قال الله تبارك وتعالى: (( أرأيت الذي ينهى. عبداً إذا صلى. أرأيت إن كان على الهدى. أو أمر بالتقوى. أرأيت إن كذب وتولى. ألم يعلم بأن الله يرى )): كل هذا للتهديد، تهديد هذا الرجل الذي كان ينهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة، حتى أنه توعده وقال لأطأن عنقه إذا سجد، ولكن أبى الله تعالى ذلك، فقد همّ به ولكنه نكص على عقبيه، ورأى أهوالاً عظيمة حالت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، يقول: (( ألم يعلم بأن الله يرى )): يحتمل أن يكون ما رئي بالعين، ويحتمل أن تكون من قوة العلم، وكل هذه المعاني صحيحة، فالله عز وجل يرى بعلمه ويرى ببصره جل وعلا، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والمراد من هذه الجملة التهديد، يعني ألم يعلم هذا الرجل أن الله تعالى يراه ويعلمه، وهو سبحانه وتعالى محيط بعمله، فيجازيه عليه إما في الدنيا، وإما في الدنيا والآخرة.
تفسير قوله تعالى:" كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية "
ثم قال: (( كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية )): (( كلا )) هذه بمعنى حقًّا، ويحتمل أن تكون للردع، أي لردعه عن فعله السيئ الذي كان يقوم به تجاه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو بمعنى حقًّا (( لنسفعن بالناصية ))، وجملة (( لنسفعن )) جواب لقسم مقدر والتقدير: والله لئن لم ينته لنسفعن بالناصية، وحذف جواب الشرط وبقي جواب القسم، لأن هذه هي القاعدة في اللغة العربية أنه إذا اجتمع قسم وشرط فإنه يحذف جواب المؤخر، قال ابن مالك في ألفيته: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم *** جواب ما أخرت فهو ملتزم، وهنا المتأخر هو الشرط (( لئن )) والقسم مقدر قبله إذ تقديره: والله لئن لم ينته لنسفعن، ومعنى (( لنسفعن )) أي لنأخذن بشدة، و (( الناصية )): مقدم الرأس و" الـ " فيها أي: في الناصية أل للعهد، وأي عهد هو؟ العهد الذهني، والمراد بالناصية هنا ناصية أبي جهل الذي توعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صلاته ونهاه عنها، أي لنسفعن بناصيته، وهل المراد الأخذ بالناصية في الدنيا، أو في الآخرة يجر بناصيته إلى النار؟ يحتمل هذا وهذا، يحتمل أنه يؤخذ بالناصية وقد أخذ بناصيته في يوم بدر حين قتل مع من قتل من المشركين، ويحتمل أن يكون يؤخذ بناصيته يوم القيامة فيقذف في النار كما قال الله تعالى: (( يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام )). وإذا كانت الآية صالحة لمعنيين لا يناقض أحدهما الآخر فإن الواجب حملها على المعنيين جميعاً كما هو المعروف والذي قررناه سابقاً ونكرره الآن، أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الآخر فالواجب الأخذ بالمعنيين جميعاً.
تفسير قوله تعالى:" ناصية كاذبة خاطئة "
قوله تعالى: (( ناصية كاذبة خاطئة )): ناصية بدل من الناصية الأولى، وهي بدل نكرة من معرفة، وهي جائزة في اللغة العربية وإنما قال: (( ناصية )) من أجل أن يكون ذلك توطئة للوصف الآتي بعدها وهو قوله (( كاذبة خاطئة )): (( كاذبة )) أي أنها موصوفة بالكذب، ولا شك أن من أكبر ما يكون كذباً ما يحصل من الكفار الذين يدّعون أن مع الله آلهة أخرى، فإن هذا أكذب القول وأقبح الفعل، (( خاطئة )): أي مرتكبة للخطأ عمداً، وليعلم أن هناك فرقاً بين خاطئ ومخطئ، الخاطئ من ارتكب الخطأ عمداً، والمخطئ من ارتكبه جهلاً، والثاني معذور، والأول غير معذور، قال الله تبارك وتعالى: (( لا يأكله إلا الخاطئون )). أي المذنبون ذنباً عن عمد، وقال تعالى: (( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )). فقال الله ( قد فعلت )، ومثل ذلك القاسط والمقسط، القاسط هو الجائر، والمقسط هو العادل، قال الله تعالى: (( وأقسطوا إن الله يحب المقسطين )). وقال تعالى: (( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً )). إذاً (( خاطئة )) أي مرتكبة للإثم عمداً.
تفسير قوله تعالى:" فليدع ناديه. سندع الزبانية " ذكر قصة أبي جهل
(( فليدع ناديه. سندع الزبانية )): اللام هنا للتحدي، يعني إن كان صادقاً وعنده قوة، وعنده قدرة فليدع ناديه، والنادي هو مجتمع القوم للتحدث بينهم والتخاطب والتفاهم والاستئناس بعضهم ببعض، وكان أبو جهل معظمًا في قريش، وله نادي يجتمع الناس إليه فيه، ويتكلمون في شؤونهم فهنا يقول الله عز وجل إن كان صادقاً فليدع ناديه، وهذا لا شك أنه تحدي، كما تقول لعدوك إن كان لك قوم فتقدم وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على التحدي. (( سندع الزبانية )) يعني عندنا من هم أعظم من نادي هذا الرجل وهم الزبانية ملائكة النار - نسأل الله العافية -، وقد وصف الله تعالى ملائكة النار بأنهم غلاظ شداد، غلاظ في الطباع، شداد في القوة (( لا يعصون الله ما أمرهم )). بل يمتثلون كل ما أمرهم الله به (( ويفعلون ما يؤمرون )) لا يعجزون عن ذلك فوصفهم بوصفين أنهم في تمام الانقياد لله عز وجل (( لا يعصون الله ما أمرهم )) وأنهم في تمام القدرة (( ويفعلون ما يؤمرون )) وعدم تنفيذ أمر الله عز وجل إما أن يكون للعجز، وإما أن يكون للمعصية، فمثلاً الذي لا يصلي الفرض قائماً قد يكون للعجز، وقد يكون للعناد فهو لا ينفذ أمر الله، لكن الملائكة الذين على النار ليس عندهم عجز، عندهم قوة وقدرة، وليس عندهم استكبار عن الأمر، بل عندهم تمام التذلل والخضوع، هؤلاء الزبانية لا يمكن لهذا وقومه وناديه أن يقابلوهم أبداً ولهذا قال: (( سندع الزبانية )) فإن قال قائل: أين الواو في قوله (( سندع )) ؟ قلنا: إنها محذوفة لالتقاء الساكنين، لأن الواو ساكنة والهمزة همزة الوصل ساكنة، وإذا التقى ساكنان فإنه إن كان الحرف صحيحاً كسر، وإن كان غير صحيح حذف، قال ابن مالك رحمه الله في الكافية: إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق *** وإن يكن ليناً فحذفه استحق ، يعني إذا التقى ساكنان إن كان الحرف الأول صحيحاً ليس من حروف العلة كسر مثل قوله تعالى: (( لم يكن الذين كفروا )) وأصلها (( لم يكنْ )) لأن لم إذا دخلت على الفعل جزمته كما في قوله تعالى: (( ولم يكن له كفواً أحد )) لكن هنا التقى ساكنان، وكان الأول حرفاً صحيحاً فكسر، أما إذا كان الأول حرف لين، يعني حرف من حروف العلة فإنه يحذف كما في هذه الآية (( سندع الزبانية )).
تفسير قوله تعالى:" كلا لا تطعه واسجد واقترب "
(( كلا لا تطعه واسجد واقترب )): يقال في (( كلا )) ما قيل في الأولى التي قبلها والخطاب في قوله: (( لا تطعه )) أي لا تطع هذا الذي ينهاك عن الصلاة، بل اسجد ولا تبالي به، وإذا كان الله نهى نبيه أن يطيع هذا الرجل فهذا يعني أنه جل وعلا سيدافع عنه، يعني افعل ما تؤمر ولا يهمنك هذا الرجل، واسجد لله عز وجل، والمراد بالسجود هنا الصلاة، لكن عبر بالسجود عن الصلاة لأن السجود ركن في الصلاة لا تصح إلا به، فلهذا عبر به عنها. وقوله: (( واقترب )) أي اقترب من الله عز وجل، لأن الساجد أقرب ما يكون من ربه كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم ) أي حري أن يستجاب لكم.
فوائد سورة العلق
هذه السورة العظيمة كما سمعناها، سورة عظيمة ابتدأها الله تعالى بما منّ به على رسوله عليه الصلاة والسلام من الوحي، ثم اختتمها بالسجود والاقتراب من الله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم القيام بطاعته والقرب منه، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، إنه جواد كريم.
اضيفت في - 2007-02-04