حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية وإنما لإمرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هجر إليه حفظ
القارئ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ).
الشيخ : هذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في الإسلام، قال أهل العلم : وإذا ضممت هذا الحديث إلى قوله صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ ) فقد انتظمْت الشّرع كلّه، لأن حديث عمر ميزان للأعمال الباطنة، وهي أعمال القلوب، وحديث عائشة ميزانٌ للأعمال الظاهرة، إذ كل عمل لا بد فيه من نيّة خالصةٍ ومتابعة، فحديث عمر في النية، وحديث عائشة في المتابعة، وهذا صحيح.
هذا الحديث الذي هو حديث عمر، يكون في جميع الأعمال، وجميع الأخلاق، فإن الإنسان قد يصل بنيته الصالحة إلى ما لم يصل إليه كثيرٌ من الناس، حتّى إن الموفق هو الذي يجعل عاداته عبادات، فيكلّم الناس وينبسط إليهم يرجو بذلك ثواب الله، يأكل الطعام ينوي بذلك امتثالاً لأمره تعالى : (( كلوا واشربوا ))، ينوي بذلك التّبسّط بنعمة الله، واستشعاره بكرم الله عز وجل عليه، وتيسيره له، فإنَّ هذا الطعام الذي يكون بين يديك، أتدري كم يداً عملته؟ منذ حُرثَت الأرض، ثمّ زُرِعَت، ثم أسْقِيَت، ثمّ حُصِدَت، ثمّ نُقِّيَت، ثمّ جُنِب، ثمَّ طُحِن، ثمَّ عُجِن، ثمَّ طُبٍخ، يعني أشياء كثيرة، فتنوي بذلك وتستشعر أن هذا من فضل الله عليك، وليس بحولك ولا قوّتك.
كذلك تنوي بهذا الأكل والشرب : إحياء البدن، وحفظ النفس، وأنت مأمور بحفْظ النَّفس، ومنهيٌّ عن إضاعته، تنوي أيضاً التقوي على التقويَ على طاعة الله، لأن الإنسان إذا لمْ يأكل ويشرب سيَضْعُف بلا شك.
فالمهم : أن من الناس من يوفَّق فتكون عاداته عبادات، ومن الناس من يغْفَل حتى تكون عباداته عادات، يقوم من نومه ويتوضَّأ ويُصلّي الفجر على العادة، ينسى أن ينوي بقلبه ويستشعر بقلبه أنه يؤدي عبادة من عبادات الله عز وجل، فالمهم أن هذا الحديث حديثٌ عظيم، حتى أنه يدخل في المُعاملات، إذا اشترى الإنسانُ سلاحاً ليُقاتل به المسلم، صار الشراء حراماً، وصار من يعلم أن نيّته هذه مُشاركٌ له في الإثم، في الطلاق، رجلٌ قال لزوجته أنتِ طالق، وأراد بقوله أنتِ طالق : طالق من وثاق، يعني غير مقيَّدة، لا يقع الطّلاق. المهم : أن هذا الحديث من أعمّ الأحاديث.
بقي أن يُقال : هل الجملة الأولى هي الثانية أم غيرها؟ ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) هل هذه الثانية هي الأولى أم تختلف؟ الصواب أنها تختلف فقوله : ( إنما الأعمال بالنيات ) هذا أصل العمل، وقوله : ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) هذا ثمرة العمل، وذلك أنه ما من عاملٍ يعمل عملاً وهو مُختارٌ عاقلٌ إلا كان ذلك بنيّة، إنما الأعمال بالنيات أي ليس هناك عمل إلا بنية، ثم لكلّ امرئ ما نوى وهذه ثمرة العمل، وإنما قلنا أن كل إنسان عاقل مختار لا يمكن أن يعمل العمل إلا بنية، لأن هذا هو الواقع، قال بعض أهل العلم : لو كلَفنا الله عملاً بدون نيّة لكان من التّكليف بما لا يُطاق، وجاء رجل إلى ابن عقيل رحمه الله وهو من أكابر علماء الحنابلة فقال له : يا سيدي أو شيخ إنني أذهب إلى دِجلة وعليّ جنابة فأنْغمِس للاغتسال ثمّ أخرج وأكون ما نويت، فقال له الشيخ : أرى ألا تصلّي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (رُفعَ القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتّى يُفيق، وعن الصغير حتى يبلغ )، وأنت لست صغيراً، ولست نائماً، أنت مجنون، والمجنون ليس عليه صلاة، وهذه حقيقة، ولذلك نحن نرْثي لأولئك الموسْوَسْين، عافانا الله وإياهم، أنَّ الإنسان يتوضّأ وضوءً كاملاً ثم يخرج ويقول : ما توضأت! نسأل الله أن يُعافيهم بما ابتلاهم به، ولا يبتلينا بهم، فيجب على الإنسان أن يبتعد عن هذه الوساوس، وهذه الشكوك.
وقوله : ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) هذه أيضاً ثمرة النية، إن نوى خيراً فله، وإن نوى شرّاً فعليه.
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بالهجرة، يخرج رجلان مهاجرَيْن، أحدهما يريد الدنيا، والثاني يريد الآخرة، العمل في ظاهره واحد، ولكن يختلف اختلافاً عظيماً في النّية، (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ) فقد حصل مراده ، ( فهجرته إلى الله ورسوله ) وهنا أظهر، ولم يقُل : فله ما نوى، لبيان شرف هذه النّيّة، التي يُراد بها الهجرة إلى الله ورسوله.
والثاني : ( وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ) : ولم يقل: فَهِجْرَتُهُ إِلَى لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا تحقيراً لهذا المراد.
الغريب أن هذا الحديث يُعتبر من الغرائب، لأنه ما رواه إلا عمر وما رواه عن عمر رضي الله عنه إلا علقمة ، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم، ثم انتشر كثيراً من بعد يحيى، وهذا يدلّ على أن الغريب قد يكون من أصحّ الأحاديث، وإن كان الأكثر في الغرائب أنها ضعيفة، لكن قد تكون من أصح الأحاديث، لأن هذا الحديث هو غريبٌ في لفظه، لكن له شواهد من القرآن والسنة في أن النية عليها مدار العمل والثواب.