قال الله تعالى : << واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا >> حفظ
(( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )) إلى آخره ، (( اصبر نفسك )) يعني احبسها مع هؤلاء الذين يدعون الله دعاء مسألة ودعاء عبادة (( بالغداة )) أول النهار (( والعشي )) آخر النهار مخلصين لله عز وجل (( يريدون وجهه )) ولا يريدون شيئاً من الدنيا يعني أنهم يفعلون ذلك لله وحده لا لأحد سواه ، وفي الآية إثبات الوجه لله عز وجل وقد أجمع علماء أهل السنة على ثبوت الوجه لله تعالى لدلالة الكتاب والسنة على ذلك قال الله تعالى : (( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ))[الرحمن:27]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أعوذ بوجهك ) وأجمع سلف الأمة وأئمتها على ثبوت الوجه لله ولكن هل يكون هذا الوجه مماثلاً لأوجه المخلوقين ؟ اسمعوا يا إخواني ولاسيما الجدد ، لا يمكن أن يكون وجه الله مماثلاً لأوجه المخلوقين لقول الله تعالى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))[الشورى:11]، وقوله تعالى : (( رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ))[مريم:65]، أي شبيهاً ونظيراً ، وقال الله تبارك وتعالى : (( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ))[البقرة:22]، وهكذا كل ما وصف الله به نفسه فالواجب علينا أن نجريه على ظاهره لكن بدون تمثيل ، فإن قال قائل : إذا أثبت لله وجها لزم من ذلك التمثيل ونحمل قوله : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) يعني إلا فيما أثبته كالوجه واليدين مثلاً ؟ فالجواب أن هذا مكابرة لأننا نعلم حساً وعقلاً أن كل مضاف إلى شيء فإنه يناسب ذلك الشيء ، أنتم معنا كل المضاف إلى الشيء فإنه يناسب ذلك الشيء ، أليس للإنسان وجه ؟ وللجمل وجه ؟ وللحصان وجه ؟ وللفيل وجه ؟ هل هذه الأوجه متفقة ؟ لا أبداً تناسب ما أضيفت إليه بل إن الوقت والزمن له وجه كما في قوله تعالى : (( آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ ))[آل عمران:72]، (( وجه النهار )) فأثبت للزمن وجهاً هل يمكن لأحد أن يقول : وجه النهار مثل وجه الإنسان ؟ لا يمكن إذاً ما أضافه الله لنفسه من الوجه لا يمكن أن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين ، لأن كل صفة تناسب الموصوف فإن قال قائل : إنه جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله خلق آدم على صورته ) فما الجواب ؟ الجواب من أحد وجهين : إما أن يقال : على صورة الله لكن لا يلزم من كونه على صورته أن يكون مماثلاً له ، الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، ونحن نعلم أنه ليس هناك مماثلة بين هؤلاء والقمر لكن على صورة من حيث العموم إضاءة وابتهاجاً ونوراً . الوجه الثاني : أن يقال : على صورته أي على الصورة التي اختارها الله عز وجل فإضافة صورة الآدمي إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم كما في قوله تعالى : (( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ))[البقرة:114]، ومن المعلوم أن الله لا يصلي في المساجد لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم ولأنها إنما بنيت لطاعة الله ، وكقول صالح لقومه : (( نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ))[الشمس:13]، ومعلوم أن الله عز وجل ليس هذه الناقة له يركبها لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم فيكون خلق آدم على صورته أو على صورة الرحمن يعني على الصورة التي اختارها من بين سائر المخلوقات . قال الله تعالى في سور الانفطار : (( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ))[الانفطار:6-7]، أي جعلك ذا اعتدال وهذا يشمل اعتدال القامة واعتدال الخلقة ، طيب ففهمنا الآن والحمد لله أن الله تعالى له وجه حقيقي وأنه لا يشبه أوجه المخلوقين (( يريدون وجهه )) وفي هذا إشارة إلى الإخلاص ، لقوله : (( يريدون وجهه )) فعليك أخي المسلم بالإخلاص حتى تنتفع بالعمل (( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) يعني لا تعد عيناك عن هؤلاء السادة الكرام (( تريد زينة الحياة الدنيا )) بل اجعل نظرك إليهم دائماً وصحبتك لهم دائماً وفي قوله : (( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) إشارة إلى أنه لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام فارقهم لمصلحة دينية فهل يدخل هذا في النهي أو لا ؟ لا ، النهي أن تترك أهل الخير للدنيا لا لمصلحة دينية ، (( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا )) (( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا )) يعني عن ذكره إيانا أو عن الذكر الذي أنزلناه فعلى الأول يكون المراد أن الإنسان الذي يذكر الله بلسان دون قلبه داخل في الآية ، وعلى الثاني يكون المراد الرجل الذي أغفل الله قلبه عن القرآن فلم يرفع به رأساً ولم ير في مخالفته بأساً ، ، (( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ )) ولم يتبع الهدى ، (( وكان أمره )) أي شأنه (( فرطا ً)) أي منفرطاً عليه تمضي الأيام والليالي ولا يحس بشيء وفي هذه الآية إشارة إلى أهمية حضور القلب عند ذكر الله وأن الإنسان الذي يذكر الله بلسان لا بقلبه يكون تنزع البركة من أعماله وأوقاته حتى يكون أمره فرطاً عليه تجري جري يبقى الساعات الطويلة وهو لم يحصل شيئاً لكن لو كان قلبه مع الله لحصلت البركة في جميع أعماله (( وكان أمره فرطاً ))