تتمة تفسير الآية : << و إذ قلنا للملآئكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلآ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه و ذريته أوليآء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا >> حفظ
أظن وقفنا على (( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ )) (( إذ )) مفعول لفعل محذوف ، التقدير أذكر إذ قلنا للملائكة ، يعني أذكر هذا للأمة حتى تعتبر به ويتبين به فضيلة بني آدم عند الله عز وجل (( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ )) الملائكة جمع ملك ، بعد التصريف المعروف عند أهل الصرف وهم كما فسرنا بالأمس عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور ، (( اسْجُدُوا لِآدَمَ )) قال بعضهم سجود تحية وليس سجوداً على الجبهة ولكن في هذا القول نظراً لأنهم إنما فروا من كونه سجوداً على الجبهة أن السجود لا يصح إلا لله عز وجل وأنه شرك إذا وقع لغير الله ، ولكن الذي يجب علينا أن نأخذ الكلام على ظاهره ونقول : الأصل أنه سجود على الجبهة ، وإذا كان امتثالاً لأمر الله لم يكن شركاً كما أن قتل النفس بغير حق من كبائر الذنوب وإذا وقع امتثالاً لأمر الله كان طاعة من الطاعات ، إن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أن يذبح ابنه هو بنفسه باشر الذبح ولا يخفى من في هذا من العدوان ، ولا يخفى من في هذا من قطيعة الرحم لكن لما كان هذا امتثالاً لأمر الله عز وجل صار طاعة ، إذاً السجود لآدم لولا أمر الله لكان شركاً لكن إذا أمر الله به فالأمر كله لله عز وجل فالصواب أن الآية على ظاهرها وأن المراد السجود على الجبهة لكن لما كان بأمر الله كان طاعة لله وآدم هو أبو البشر خلقه الله عز وجل من طين وخلقه بيده ، قال أهل العلم : "لن يذكر الله شيئاً بيده إلا آدم وجنة عدن فإنه خلقها بيده وكتب التوراة بيده جل وعلا " فهذه ثلاثة أشياء كلها كانت بيد الله ، غير آدم يخلق بالكلمة كن فيكون ، آدم عليه الصلاة والسلام خلقه الله تعالى بيده ، وآدم نبي وليس برسول لأن أول رسول أرسل إلى البشرية هو نوح أرسله الله عز وجل لما اختلف الناس (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ))[البقرة:213] ، أي المعنى كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، فكان أول رسول نوح عليه الصلاة والسلام وليس آدم ، آدم نبي مكلم ، فإذا قال قائل : كيف يكون نبياً ولا يكون رسولاً ؟ نقول : نعم ، يكون نبياً ولا يكون رسولاً لأنه لم يكن هناك داعياً إلى الرسالة ، الناس كانوا على ملة واحدة والبشر لم ينتشروا بعد كثيراً ولم يفتتنوا بالدنيا كثيراً ، نفر قليل فكانوا يستنون بأبيهم ويعملون عمله ، ولما انتشرت الأمة وكثرت واختلفوا أرسل الله رسلاً ، (( اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا )) امتثالاً لأمر الله (( إِلَّا إِبْلِيسَ )) لم يسجد ، وإبليس هو الشيطان ، ولم يسجد بين الله ذلك بقوله : (( كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )) وجملة (( كان من الجن )) استئنافية لبيان حال إبليس أنه كان من الجن أي من هذا الصنف وإلا فهو أبوهم لكنه من هذا الصنف (( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )) أي خرج عن طاعة الله تعالى بأمره ، وأصل الفسوق الخروج ، ومنه قولهم : فسقت الثمرة إذا انفرجت وانفتحت (( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )) إلى آخره ، إذا قال قائل : ظاهر القرآن أن إبليس كان من الملائكة ، فالجواب لا ليس ظاهر القرآن لأنه قال : (( إلا إبليس )) ثم ذكر أنه كان من الجن ، نعم القرآن يدل على أن الأمر توجه إلى إبليس كما هو قد توجه إلى الملائكة ولكن لماذا ؟ قال العلماء : إنه كان أي إبليس يأتي إلى الملائكة ويجتمع إليهم فوجه الخطاب إلى هذا المجتمع من الملائكة الذين خلقوا من نور ومن الشيطان الذي خلق من النار ، رجع الملائكة إلى أصلهم والشيطان إلى أصله وهو الاستكبار والإباء والمجادلة بالباطل لأنه أبى واستكبر وجادل ماذا قال لله ؟ قال : (( أنا خير منه )) كيف تأمرني أن أسجد لواحد أنا خير منه ثم علل بعلة هي عليه قال : (( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ))[الأعراف:12] ، فالمخلوق من الطين أحسن من المخلوق من النار ، المخلوق من النار ، النار محرقة ، ملتهبة ، فيها علامة الطيش تجد اللهب ، فيها تروح يمين وشمال ما لها قاعدة مستقرة ، المهم ابن القيم رحمه الله في كتاب " إغاثة اللهفان " ذكر فروق كثيرة بين الطين وبين النار ، فهو ليس خيراً من آدم لكونه خلق من النار ، ثم على فرض أنه خلق من نار وكان خيراً من آدم أليس الأجدر به أن يمتثل أمر خالقه ؟ بلى لكنه لم يفعل واستكبر ، قال الله عز وجل لما بين حال هذا الشيطان : (( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا )) (( أفتتخذون )) الخطاب يعود لمن اتخذ إبليس وذريته أولياء من دون الله ، فعبدوا الشيطان وتركوا عبادة الرحمن قال الله تعالى : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ))[يس:60-61] . فيقول هنا : (( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ )) قوله : (( وذريته )) أي من ولدوا منه ، سئل بعض السلف سأله أناس من المتعمقين وقالوا : ألشيطان زوجة ؟ هل للشيطان زوجة ؟ قال : إني لم أحضر العقد ، جواب صحيح ولا لا ؟ قال : إني لم أحضر العقد ، السؤال هل له زوجة ؟ ما له داعي نحن نؤمن بأن له ذرية أما من زوجة أو من غير زوجة ما ندري ، أليس الله تعالى خلق حواء من آدم ؟ فيجوز أن الله عز وجل خلق ذريته منه كما خلق حواء من آدم ، وهذه المسائل مسائل الغيب لا ينبغي للإنسان أن يرد علينا شيئاً يرد على مسائل الشاهد ، لأن هذه أمور فوق مستوانا ، نحن نؤمن بأن له ذرية ولكن هل يلزمنا بأن نؤمن بأن له زوجة ؟ لا يلزمنا ، نعم . (( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي )) أي تتولونهم وتأخذون بأمرهم من دون الله عز وجل ، (( وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ )) هذا محط الإنكار ، يعني كيف تتخذ هؤلاء أولياء وهم أعداء ؟ وهذا من السفه ونقص العقل ، ونقص التصرف أن يتخذ الإنسان عدوه ولياً . قال الله تعالى : (( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا )) أي بئس هذا البدل بدل لهم ، وما هو البدل الخير ؟ أن يتخذوا الله ولياً لا الشيطان (( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا )) وقوله : (( للظالمين )) يمكن أن نقول : إنما بمعنى الكافرين لأنهم هم الذين اتخذوا الشيطان وذريته أولياء على وجه الإطلاق ، ويمكن أن نقول : الظالمين تعم الكافرين ومن كان ظلمهم دون الكفر . ثم قال الله عز وجل : (( مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ))[الكهف:51] ، يعني هؤلاء لا يستحقون أن يتخذوا أولياء لأنه ليس لهم حظ في الكون والتدبير ، فالله عز وجل ما أشهدهم خلق السماوات والأرض لأن السماوات والأرض مخلوقة قبل الشياطين (( ولا خلق أنفسهم )) يعني بعضهم من بعض ، يعني ما أشهدت بعضهم خلق بعض ، فكيف تتخذونهم أولياء وهم لا شاركوا في الخلق ولا خلقوا شيئاً بل ولا شاهدوا خلق السماوات والأرض ؟