تفسير أول سورة النازعات . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين :
أما بعد: فهذا هو يوم الخميس الرابع من شهر جمادى الأولى عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف، وهو موعد اللقاء الأسبوعي في كل خميس، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا جميعًا نعمه، وأن ينفع بهذه اللقاءات وغيرها، وأن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً طيباً واسعاً.
درسنا في هذا اليوم هو أول سورة النازعات.
قال الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم: (( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً )):
البسملة آية من كتاب الله مستقلة، لا تتبع السورة التي قبلها ولا التي بعدها، ولهذا كان القول الراجح أن البسملة ليست من الفاتحة، بل هي مستقلة، ودليل ذلك حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين أن الله تعالى قال: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي ) وذكر تمام الحديث.
كما أنها أيضاً ليست آية من السور الأخرى، وما نشاهده في المصحف من جعلها آية في الفاتحة دون غيرها إنما هو على رأي بعض العلماء، ولكن الصواب ما ذكرت لكم أنها آية مستقلة، ولهذا لو اقتصر الإنسان في سورة الفاتحة على قوله: (( الحمد لله رب العالمين )) إلى آخر السورة لكانت صلاته صحيحة.
إلا أنها لا توجد في أول سورة براءة، وسبب ذلك: أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين السورتين آية البسملة، فلذلك لم تكن موجودة، وأما تعليل بعض العلماء بأنها -أي: سورة براءة- نزلت بالسيف فإنه تعليل عليل لا يصح، لأن السيف إذا كان بحق فهو حق ولا يضر.
يقول الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم: (( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً )).
كل هذه أوصاف للملائكة على حسب أعمالهم التي أمرهم الله عز وجل بها.
فقوله: (( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً )) يعني: الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار، تنزعها غَرْقاً أي: نزعاً بشدة.
(( وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً )) يعني: الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين، تنشطها نشطاً، أي: تسلها برفق كالأنشوطة، وأظنكم تعرفون الأنشوطة، الرباط الذي يسموه عندنا: التكة أو ما أشبه ذلك من الكلمات، يعني يكون ربطاً بحيث إذا سللت أحد الطرفين انفكت العقدة هذا ينحل بسرعة وبسهولة.
فهذه الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين تنشطها نشطاً أي: تسلها برفق، وسبب ذلك أن الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار إذا دعت الروح للخروج تناديها بأقبح الأوصاف، تقول الملائكة لروح الكافر: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي إلى غضب الله، وما أشبه هذا من الكلام فتنفر الروح لا تريد أن تخرج إلى هذا، وتتفرق في الجسد والعياذ بالله، حتى يقبضوها بشدة، وينزعونها نزعاً، تكاد يتمزق الجسد منها من شدة النزع.
أما أرواح المؤمنين -جعلني الله وإياكم منهم- فإن الملائكة إذا نزلت لقبضها تبشرها: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي إلى رضوان الله، وما أشبه هذا الكلام الذي يهون عليها أن تفارق جسدها الذي ألفته فتخرج بسهولة، ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت، فقال: ليس الأمر ذلك، ولكن المؤمن إذا جاءه أجله يبشر برحمة من الله ورضوان فيحب لقاء الله )، لأنه في تلك اللحظة يرى أنه سينتقل إلى دار أحسن من الدار التي فارقها، فيفرح، كما يفرح أحدنا إذا قيل له: اخرج من بيت الطين إلى بيت المسلح والقصر المشيد الطيب، فيفرح فيحب لقاء الله، والكافر -والعياذ بالله- بالعكس إذا بشر بالغضب والعذاب فإنه يكره أن يموت يكره لقاء الله فيكره الله لقاءه.
إذاً: (( النَّازِعَاتِ غَرْقاً )) هي: الملائكة التي تنزع أرواح الكفار بشدة.
(( وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً )) الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين بسهولة ويسر.
(( فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً )) أيضاً هي: الملائكة تسبق إلى أمر الله عز وجل، ولهذا كانت الملائكة أسبق إلى أمر الله وأقوم بأمر الله من بني آدم، قال الله تعالى في وصف ملائكة النار: (( عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ))، وقال عز وجل: (( وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ))، فهم سباقون إلى أمر الله عز وجل بما يأمرهم، لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لقوتهم وقدرتهم على فعل أوامر الله عز وجل.
قال تعالى: (( وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً )) أيضاً الملائكة تسبح بأمر الله، أي: تسرع فيه كما يُسرع السابح في الماء، وكما قال تعالى عن الشمس والقمر والليل والنهار: (( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )).
فالمعنى أنها تسبح بأمر الله عز وجل على حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وهم -أي: الملائكة- أقوى من الجن، والجن أقوى من البشر، انظر إلى قوله تعالى عن سليمان: (( قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ )) يعني: إذا مددت طرفك ثم أرجعته فقبل أن يرجع إليك آتيك به، (( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ )): قال العلماء: إنه حملته الملائكة حتى جاءت به إلى سليمان، من أين؟
من اليمن، وسليمان بـالشام في لحظة، فدل هذا على أن قوة الملائكة أكبر بكثير من قوة الجن، وقوة الجن أكبر من بني آدم، لأنه لا يستطيع أحد من بني آدم أن يأتي بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام قبل مدة طويلة، الحاصل أن الملائكة تَسبح بأمر الله عز وجل بما يأمرها به.
(( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً )) أيضاً وصف للملائكة، تدبر الأمر وهو واحد الأمور يعني: أمورَ الله عز وجل لها ملائكة تدبرها، وللننظر: جبرائيل: موكَّل بالوحي يتلقاه من الله وينزل به على الرسل.
إسرافيل: موكل بنفخ الصُّور الذي يكون عنده يوم القيامة، ينفخ في الصور فيفزع الناس ويموتون، ثم ينفخ فيه أخرى فيبعثون، وهو أيضاً من حملة العرش.
ميكائيل: موكل بالقطر والنبات، بالمطر والنبات.
ملك الموت: موكل بالأرواح.
مالك: موكل بالنار.
رضوان: موكل بالجنة.
(( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ )): موكل بالأعمال.
كل يدبر ما أمره الله عز وجل به: (( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً )) إذاً هذه الأوصاف كلها لمن؟
هذه الأوصاف للملائكة على حسب أعمالهم.
وأقسم الله سبحانه وتعالى بالملائكة، لأنهم من خير المخلوقات، ولا يُقسم الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وله شأن عظيم، لا يقسم الله بشيء إلا وله شأن عظيم إما في ذاته وإما لكونه من آيات الله عز وجل.
ثم قال تعالى: (( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَة )): هذه يَوْمَ تَرْجُفُ متعلقة بمحذوف، والتقدير: اذكر يا محمد وذكِّر الناس بهذا اليوم العظيم: (( تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ )) وهما النفختان في الصور.
النفخة الأولى: ترجف الناس ويفزعون، ثم يموتون عن آخرهم إلا ما شاء الله، والنفخة الثانية يبعثون مِن قبورهم، يقوم الناس من قبورهم مرة واحدة، قال الله تعالى: (( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ )).
فإذا رجفت وتبعتها الرادفة انقسم الناس إلى قسمين: (( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ )) وهذه قلوب الكفار، واجفة أي: خائفة خوفاً شديداً.
(( أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ )) يعني: ذليلة لا تكاد تحدق أو تنظر بقوة ولكنه قد غضت أبصارهم -والعياذ بالله- لذلهم، قال الله تعالى: (( وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ )).
نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا ممن نجوا في ذلك اليوم من عذاب الله، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين إنه جواد كريم.
ونقتصر على هذا الجزء لأجل أن نتلقى الأسئلة منكم، والمقرر هو سؤال واحد من كل شخص، حتى نستكمل الإخوة الحاضرين، ومن كان عنده سؤال خاص فيتفضل بعد أن تنتهي الأسئلة العامة، نكون نحن وإياه في مكان آخر، نبدأ من اليمين؟